كيف يكون الحياء من الله تعالى
فلو أردنا أن نربط الحياء بعلاقة الإنسان بربِّه؛ فكيف يكون الحياء من الله؟ أن الإنسان يستحيي من ربِّه في أن يعصيه، وقد أسدى إليه ربُّه من المعروف وأكرمه بالنِّعم وأسبغ عليه من الآلاء ما لا يعد ولا يحصى، فإنَّ الإنسان بطبعه إذا أحسن إليه شخصٌ أنَّه يستحيي من معصيته ومخالفة أمره، فلو أحسن إليه بشربة ماءٍ استحيا من أن يعصيه وأن يخالفه أو يؤذيه، فكيف بالله تعالى! فالحياء من الله: أنَّ الإنسان يتذَّكر النِّعم فيستحيي من المعصية ومن مخالفته وأن يراه على صورةٍ أو هيئةٍ يكرهها ويبغضها، ولذلك قال الشَّاعر:
هب البعث لم تأتنا رسله | وجامحة النَّار لم تضرم |
أليس من الواجب المستحق | حياء العباد من المنعم |
فهذا من الواجب المستحقِّ، ومن الحياء أيضاً في العلاقة بين العبد وربِّه: حياءُ العاصي ممَّن عصاه، فإنَّه إذا عصاه يستحيي إذا كان مؤمناً تقياً، كيف أنَّه أنعم عليه وفعل له من المعروف وأسبغ عليه النِّعم؛ ثُمَّ هو يعصيه بعد ذلك، فيستحي ويتوب ويعتدل ويستقيم ويؤوب إلى الله ، وبعض الأنبياء مع أنَّ ما فعلوه كان له وجهاً شرعياً، لكنَّهم استحيوا منه كما حصل لآدم وموسى وإبراهيم في حديث الشَّفاعة المعروف، عندما يجتمع النَّاس يوم القيامة وينزل بهم الكرب والهم ما لا يعلمه إلَّا اللهُ ، حتى يتمنُّوا الفكاك ولو إلى النَّار، فيفزع النَّاس من هذا الوقوف في هذا اليوم العظيم تحت الشَّمس والزِّحام خمسين ألف سنة على أقدامهم لا راحة ولا قعود، فيفزعون إلى الأنبياء فيأتون آدمَ فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربِّك حتى يريِّحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربَّه منها، يعني: يستحي من الله تعالى فكيف يتقدَّم للشَّفاعة وهو قد فعل فعلته، مع أنَّ الله تاب عليه فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ[البقرة:37]. قطعاً يقيناً أنَّه تاب عليه، ومع ذلك استحيا، فيذهبون بعده إلى نوح، فيقولون له: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، قال: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربَّه منها، أو يقول لي دعوةٌ دعوت بها على قومي مع أنَّ لها وجه، ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً، فيأتون إبراهيم فيقول: لست هناك وذكرت خطيئته التي أصاب مع أنَّها كذبٌ لله وفي الله، لكن لأنَّ صورتها صورة خطيئة ولو أنَّ التَّبرير موجودٌ فيستحيي ويقول: ائتوا موسى الذي كلَّمه الله وأعطاه التَّوراة، قال: فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب أنَّه قتل نفساً لم يؤمر بقتلها، قد تاب الله عليه وصار نبياً ورسولاً وعمل أعمالاً، ومع ذلك يستحيي ربَّه منها، ويقول: ائتوا عيسى، ثُمَّ يحوِّلهم على النَّبيِّ ﷺ محمد فيشفع فتقبل شفاعته فيهم[رواه البخاري6975، ومسلم 193]. فالصَّالحون ولو كانوا قد تابوا وأنابوا، لكن سابق المعصية التي حصلت يوجب حياءً من الرَّب عندهم، ولذلك لما احتضر الأسود بن يزيد بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: "مالي لا أجزع ومن أحقُّ بذلك منِّي، والله لو أتيت بالمغفرة من الله لهمَّني الحياء منه مما صنعت" يعني لو غفر لي لكن يبقى الذَّنب الذي فعلته أستحيي منه "إنَّ الرَّجل يكون بينه وبين الذَّنب الصَّغير فيعفو عنه ولا يزال مستحياً منه"[حلية الأولياء2/103]. مع أنَّه سامحه وتجاوز عنه وعفا عنه، لكن لو قابله مرَّةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً يبقى كُلَّ ما قابله مع أنَّه سامحه، لكن يبقى في نفسه شيءٌ من الاستحياء من هذا الرَّجل الذي أخطأ عليه
فيا حسرة العاصين عند معادهم | هذا وإن قدموا على الجنَّات |
لو لم يكن إلَّا الحياء من الذي | ستر القبيح لكان أعظم الحسرات |
وقال الحسن رحمه الله: "لو لم نبك إلَّا للحياء من ذلك المقام، لكان ينبغي لنا أن نبكي فنطيل البكاء"[جامع العلوم والحكم 75]. وأبو حاتم الخلقاني أنشد الإمام أحمد رحمه الله بيتين فقعد الإمام في بيته يبكي منهما:
إذا ما قال لي ربِّي | أما استحييت تعصيني |
وتخفي الذَّنب من خلقي | وبالعصيان تأتيني |
تخفيه من خلقي ولا تخفيه مني! يعني: لا يمكن إخفاؤه من الرَّب ، كان الفضيل رحمه الله في عرفات وقد رفع رأسه إلى السَّماء وهو يبكي، ويقول: "واسوأتاه منك وإن عفوت"[التبصرة لابن الجوزي2/ 129]. واحيائي منك وسوأتاه والعيب الذي ارتكبته في حقِّك وإن عفوت
يا خجلة العبد من إحسان سيده | يا حسرة القلب من ألطاف معناه |
فكم أسأت وبالإحسان قابلني | وخجلتي وحيائي حين ألقاه |
يا نفس كم بخفي اللطف عاملني | وقد رآني على ماليس يرضاه |
يا نفس كم زلَّةٍ زلَّت بها قدمي | وما أقال عثاري ثم إلا هو |
يا نفس توبي إلى مولاك واجتهدي | وصابري فيه إيقاناً برؤياه |
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:40 pm من طرف Admin
» التوكل والاعتماد على الله
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:38 pm من طرف Admin
» اليـــــــــــقين بالله
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:36 pm من طرف Admin
» حيـــــــاة الســــــــلف بين القــــــــــــول والعـــــــــــمل
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:34 pm من طرف Admin
» جاء رجل الى وهب بن منبه فقال :علمني شيئا الله به قال .....
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:31 pm من طرف Admin
» قال ابن القيم رحمه الله تعالى التوكل نصف الدين
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:29 pm من طرف Admin
» في اليقــــــــــــين والتوكل
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:26 pm من طرف Admin
» ماصبر عليه يوسف عليه السلام من مراودة امراة العزيز امر صعب جدا لقوة الداعي ؟ فما قوة الداعي فيه ؟
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:24 pm من طرف Admin
» الداخل في الشيء لايرى عيوبه
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:19 pm من طرف Admin