خلق الحياء في الجاهلية
ولذلك تجد عدداً من النَّاس الذين كانوا في جاهليتهم في غاية الوقاحة والكلام السَّيئ ورُبَّما كانوا يغشون مجامع الفسق والفساد، ويتكلَّمون مع النِّساء ولا يبالون، بعدما هداهم الله تعالى رُزقوا الحياء بسبب الهداية، فصار يستحي من الكلام البذيء، يستحي أن يتكلَّم مع امرأةٍ، ورُبما ولو أراد أن يُسلِّم عليها ويراجع نفسه: هل يسلِّم عليها أو لا يُسلِّم عليها؟ وأنَّه لا يمكن أن يغشى أماكن الفسق هذه، فهذا الحياء رزقه الشّخص نتيجة الهداية، فإذاً: الهداية التي يرزقها من أراد الله هي التي تولد الحياء في النَّفس، فإذاً: يمكن اكتسابه بالهداية إذا هداه الله واهتدى الإنسان فيكتسب حياءً لم يكن عنده من قبل، وكان عنده من قبل فعل المعاصي وعدم مبالاة بالمجاهرة بها، وهذا الحياء مكارم الأخلاق عند العرب، فإنَّ العرب كانت تثني على أهله وكان معروفاً عندهم، فقال الشَّنفرة وهو من شعراء مدرسة الصَّعاليك، والصَّعاليك يعني: الفقراء، فبعضهم كان ينهب، فاشتركوا في قضية النَّهب والسَّلب والإغارة، هذه من أساسياتهم وشعرهم تميَّز بها، والشَّجاعة والإقدام والجرأة والسَّلب والنَّهب والإغارة، لكن بعضهم كان يسرق ليُطعم الآخرين ويوزِّع على المحتاجين، وبعضهم كان يأخذ لنفسه وبعضهم كان يتباهى أنَّه يسرق ويقطع الطَّريق ولا يتورَّع عن أكل شيءٍ، ثُمَّ يوزِّع على الفقراء ويتباهى بذلك في شعره، فالشَّنفرة هذا من روَّاد مدرسة الصَّعاليك الجاهلية، وله أشعارٌ من جهة النَّظم ممتازة فيقول مادحاً امرأةً شديدة الحياء:
كأن لها في الأرض نسياً تقصُّه | على أمِّها وإن تحدِّثك تبلتِ |
كأنَّ في الارض نسياً تقصُّه: يعني: إنَّها إذا مشت فإنَّ نظرها في الأرض كأنَّها تبحث عن شيءٍ ضائعٍ في الأرض أضلته وفقدته فهي تبحث عنه، وكذلك النَّابغة وصف حياء امرأة النُّعمان حين مرَّت بمجلسهما فسقط البرقع الذي على وجهها والنَّصيف الذي كانت قد تقنَّعت به مباشرةً، فالمرأة صار عندها ردَّة فعلٍ مباشرةً لما سقط الخمار فسترت وجهها بيدها، فقال النَّابغة:
سقط النَّصيف ولم ترد إسقاطه | فتناولته واتقتنا باليد |
فيدٌ على الوجه ويد لترفع الخمار، وهذا هو التَّصرف الطَّبيعي من امرأةٍ عندها حياءٌ إذا حصل وسقط منها الغطاء أو سقط الخمار، أو هبَّ الهواء أو انكشف الثَّوب، أمَّا التي ليس عندها حياء فلذلك فهي تخرج كيفما اتَّفق، تضع الحجاب كيفما كان ولا تبالي، وإن خرج جزءٌ أو أجزاء من جسدها، وكان العرب يستحيون حتى أنَّ بعضهم كان يستحي في حال شركه، كما حدث لأبي سفيان قبل أن يسلم لما استدعاه هرقل ملك الرَّوم، وسأله أسئلةً عن النَّبيِّ ﷺ وعن حالهم معه، فقال أبو سفيان: "فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عنه" فهم كُلُّهم كانوا كفاراً، إذا كذب أصحابه لن يعترضوا عليه مع أنَّ هرقل كان وضعهم لكي لا يكون هناك نظر واتفاق على الأخبار بأشياء غير صحيحة، وقال هذا صاحبكم وأنتم اجلسوا خلفه فإذا كذب فأخبروني، فأبو سفيان كان يضمن أن أصحابه الذين خلفه الكفَّار الذين كانوا مثله لو كذب ما كذَّبوه، لكن كان يخشى من شيءٍ آخر، فرُبَّما ما كان يخشى أن يكذِّبه أصحابه؛ لكن كان يخشى أنَّه لو كذب وسكتوا وما كذَّبوه سيكون عندهم بعد ذلك -عند أصحابه الكفَّار المشركين- أنَّه كذَّب، ولذلك قال: فوالله لولا الحياء، يعني: ما ردعه إيمانٌ ولا تقوى ولا أنَّه يعتبر الكذب محرَّماً، بل قال: والله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عنه، لكن استحييت أن يُقال: أبو سفيان كذب، فعند العرب كان هذا الخلق معروفاً، وكان يردع عن أشياء كثيرةٍ، وعند بعض العرب كانت صفة الحياء موجودةً، ولكن تقريباً الآن شبه مفقودة عند العرب، والمقصود بالعرب من غير الإسلام، فقد جاء من حديث أبي موسى الأشعري أنَّ رسول الله ﷺ بعثه مع أبي عامر إلى جيش في أوطاس، ورمى رجلٌ من بني جُشمٍ من الكفَّار أبا عامر بسهمٍ فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه فقلت يا عم من رماك فأشار أبو عامر إلى أبي موسى فقال: إنَّ ذاك قاتلي، قال أبو موسى: فقصدت إليه فاعتمدته فلحقته فلما رآني ولى عني ذاهبا فاتبعته وجلعت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ فكرَّ بمجرَّد أن ذكَّره بقضية الحياء، كفَّ عن الهرب؛ لأنَّهم يعتبرونه عيباً كبيراً، ذكَّره بالحياء والهزيمة: ألا تستحيي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ فكرَّ فالتقيت أنا وهو فاختلفنا ضربتين فضربته بالسَّيف فقتلته"[رواه النسائي8730]. فهل تقول: أنَّ العرب هؤلاء لو ذُكِّروا بالحياء من الهزيمة لذكروا؟
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:40 pm من طرف Admin
» التوكل والاعتماد على الله
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:38 pm من طرف Admin
» اليـــــــــــقين بالله
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:36 pm من طرف Admin
» حيـــــــاة الســــــــلف بين القــــــــــــول والعـــــــــــمل
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:34 pm من طرف Admin
» جاء رجل الى وهب بن منبه فقال :علمني شيئا الله به قال .....
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:31 pm من طرف Admin
» قال ابن القيم رحمه الله تعالى التوكل نصف الدين
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:29 pm من طرف Admin
» في اليقــــــــــــين والتوكل
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:26 pm من طرف Admin
» ماصبر عليه يوسف عليه السلام من مراودة امراة العزيز امر صعب جدا لقوة الداعي ؟ فما قوة الداعي فيه ؟
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:24 pm من طرف Admin
» الداخل في الشيء لايرى عيوبه
الأربعاء فبراير 15, 2023 6:19 pm من طرف Admin